اللغة العربية: تأملات في تأثيرها الثقافي والتاريخي

التصنيف

قامت الحضارة العربية والإسلامية على اللغة العربية، وحتى قبل نزول القرآن الكريم، كانت اللغة العربية هي لغة الشعر والنثر، وكان لنزول القرآن الكريم باللغة العربية دون غيرها من اللغات تأثيرًا كبيرًا، فأصبحت اللغة العربية لغة الحضارة والفكر والأدب، وبها انتقلت الحضارة العربية إلى حضارات الهند واليونان وغيرها.   وعلى مر التاريخ، أبدع العلماء العرب في شتى المجالات، وأسسوا حضارة عربية عالمية كانت ولا تزال زخرًا للحضارة الإنسانية، والتي قال عنها المستشرقون إنه لولا الحضارة العربية والإسلامية لتأخرت الحضارة العالمية المعاصرة عدة قرون، ويستهدف هذا المقال تجلية دور اللغة العربية في الحضارة العربية والإسلامية، وكيف تمكنت اللغة من استيعاب الحضارات العالمية السابقة عليها. اليوم العالمي للغة العربية كان اعتبار الثامن عشر من ديسمبر من كل عام يوم عالمي للغة العربية بمثابة تأكيد على دورها في صنع الحضارة الإنسانية. ترجع أهمية المبادرة العالمية للأمم المتحدة بيوم اللغة العربية إلى أنها خطوة منها لزيادة الوعي واحترام تاريخ وإنجازات اللغة العربية، باعتبارها إحدى لغات الأمم المتحدة الستة.   بالإضافة إلى ذلك، فإن الاحتفال باللغة العربية يُعد جزء من الاحتفال بلغات الأمم المتحدة، والذي بدور يعتبر جزءًا من الاحتفال باليوم العالمي للغة الأم، والذي يتم الاحتفال به سنويًا في الحادي والعشرين من فبراير من كل عام، والذي كانت لمنظمة اليونسكو السبق في الاحتفال به من أجل التركيز على اللغات المعرضة للانقراض، إذ تقول اليونسكو في أحد تقاريرها إن نصف عدد لغات العالم والبالغ 6500 لغة مهددة بالانقراض. اللغة العربية واللغات الأخرى على مر العصور، كانت اللغة العربية منفتحة على جميع الغات، فلم تكن منكفة على نفسها، بل على العكس فاللغة العربية كانت لها الإسهامات في اللغات الأخرى، فاللغة العبرية، على سبيل المثال اعتمدت في كل قواعدها النحوية والتصريفية على القواعد العربية.   وعلى الجانب الآخر، نجد لغة مثل اللغة الفارسية قد اعتمدت في أحرفها على الحروف العربية كوسيلة للكتابة والتعبير، وقبلها كانت التركية قبل أن تستبدل الحروف العربية باللاتينية. لذلك، يمكن القول إن لغتنا العربية تتميز بميزة جعلتها قادرة دائمًا على مواءمة الجديد، ومواكبة الحديث، لتكون المؤثر الأبرز في اللغات الأخرى، ولتكون خير وسيط لربط ثقافة الأمم ببعضها. اللغة العربية جسرًا للاتصال المعرفي كانت اللغة العربية بمثابة القوة الناعمة التي استخدمناها في الاتصال الفكري مع مختلف الثقافات العالمية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، استطاعت اللغة العربية احتواء الإنجيل والتوراة، الكتب المقدسة لليهود والمسيحيين. لتشكل اللغة العربية نموذجًا فريدًا عن سائر اللغات في قدرتها على التعايش مع مختلف الثقافات.   استطاعت اللغة العربية، بما تملكه من رصيد ثقافي وفكري واقتصادي وإنمائي التأثير في الحضارات الإنسانية وذلك عبر بوابات مختلفة، مثل الترجمة، فكانت الحضارات الأخرى تترجم عن علمائنا ومفكرينا الكتب والموسوعات من أجل التعرف على علومنا الحديثة وقتها، فكانت بمثابة قوة ناعمة استطعنا من خلالها أن نسهم في بناء الحضارات الإنسانية.   إن الأثر الذي تركته اللغة العربية في الحضارات الإنسانية لم يرتبط بالهيمنة العسكرية والسياسية المرتبطة بالفتوحات الإسلامية، ولكن التأثير العلمي الذي خلفته الحضارة العربية في الحضارات الأخرى كان ليندثر لولا التقدم الذي حققته اللغة العربية في جميع الميادين، مما دفع المبدعين والمفكرين والعلماء من الحضارات الأخرى لتعلم اللغة العربية من أجل أن ينهلوا من علومها. التحديات في وجه اللغة العربية لقد واجهت اللغة العربية ولا زالت تواجه حتى يومنا هذا العديد من التحديات من أجل القضاء عليها، فبدأت الحملات للمقارنة بين اللغة العربية واللغة اللاتينية، والمحاولة لإيقاف اللغة العربية عن الانتشار واستبدالها بالعامية بل والسعي لخلق لغة وسطى بين العامية والفصحى، وذلك لإنزال مستوى الثقافة العامة.   بالإضافة إلى ذلك، الترويج للحديث والكتابة باللغات اللاتينية باعتبارها لغة الثقافة والعلم، وأن الحديث والكتابة باللغة العربية الفصحى دليلًا على الجهل والتخلف، وهو بعيد كل البعد عن لغتنا العربية التي كانت ولا تزال تلعب دورًا مهمًا في التأثير على الحضارات الإنسانية والثقافات الأخرى.   في النهاية، يمكننا القول إن على مر العصور كان للغة العربية دورًا تاريخيًا وثقافيًا كبيرًا، فكانت بمثابة الجسر الذي ربط بين حضارتنا العربية وبين الحضارات الأخرى، وكان لها تأثيرًا كبيرًا على اللغات الأخرى مثل العبرية والفارسية والتركية، ومما لاشك فيه أن إقرار الأمم المتحدة يومًا للاحتفال باللغة العربية من كل عام، لهو دليل دامغ لما تمثله اللغة العربية من قيمة للحضارة الإنسانية. لذلك، فإنه يجب علينا الآن أن نقف سويًا في وجه كل من يحاول أن يشوه من لغتنا العربية، وأن نفتخر بالتحدث والكتابة بها في كل وقت وفي كل مكان.

قراءة المزيد

الشعر العربي: ركيزة الهوية الثقافية ومنبر التعبير الفني

التصنيف

من القضايا التي شغلت بها الدراسات الثقافية في عصر العولمة قضية الهوية، فهي محط اهتمام الفلسفة والأنثروبولوجيا والسياسة، فقد دفع عصر العولمة الإنسان إلى البحث عن خصوصيته، في ظل تصارع الهويات المختلفة. إن اهتمام الدراسات الثقافية بالهوية داخل النصوص الأدبية، جاء بسبب أهميتها، فهي حجر الزاوية في تكوين الأمم، لأنها نتيجة تراكم تاريخي طويل. في هذا المقال، نتناول أشكال الهويات وتعددها، وكيف ارتبطت بالشعر العربي، وكيف كانت أفضل طريقة لنعبر بها عن أنفسنا، في شكل تعبير فني بديع . الهوية الوطنية تشير الهوية الوطنية إلى الانتماء إلى مكان معين كانتماء أحمد شوقي إلى وطنه "مصر" التي لم ينكفئ عن ذكرها في أشعاره، خاصةً عند نفيه من مصر في أوائل الحرب العالمية الأولى. عندما نقرأ شعر شوقي نجده يسطع من نور الوطنية ويتأجج لهيبها وهو أكثر الشعراء إنتاجًا لهذا النوع من الشعر. فتأمل في أول قصيدة له في ديوانه، وهي التي قالها في المؤتمر الشرقي الدولي المنعقد بمدينة جنيف عام ١٨٩٤ ومطلعها: همَّت الفُلك واحتواها الماءُ     وحداها بمن تُقِل الرجاءُ ومن أشهر قصائده، القصيدة التي قالها عند رحيل اللورد كرومر على إثر حادث دنشواي في 1907: أيامُكم أم عهد إسماعيلا               أم أنت فرعونٌ يسوس النيلا أم حاكمٌ في أرض مصر بأمره       لا سائلًا أبدًا ولا مسئولا؟ يا مالكًا رقَّ الرقاب ببأسه             هلَّا اتخذت إلى القلوب سبيلا؟ لما رحلتَ عن البلاد تشهَّدَت          فكأنك الداءُ العياء رحيلا أوسعتَنا يومَ الوداع إهانةً              أدبٌ لعمرك لا يُصيبُ مثيلا الهوية القومية تتعلق الهوية القومية بإحساس الشعراء العرب بالانتماء إلى أمة معينة بتقاليدها ولغتها وتاريخها المشترك، الذي لم يعرف إلا الظلم والاستبداد، مما ولد إحساسًا بالقومية العربية وبأننا نمتلك مصيرًا مشتركًا. والشاعر رفعت عبد الوهاب المرصفى يسطر بقلبه قبل قلمه الكثير والكثير من قصائد الشجن حول هموم أمته العربية والإسلامية، فيقول: يا أطفال الحُلم الآتي يا أحفاد صلاح الدين يا طرح معارك حطين يا عنوان الدرس الأول فى الزمن المُعتَل الآخر الدرسُ.. ومفردهُ حجر والجمع يُصاغ حجارة « صبرا صبرا.. آل ياسر»   فالجنة وعد وبشارة فالجنة وعد وبشارة   وفي مذبحة «قانا» بالجنوب اللبناني التي اقترفها الكيان الصهيونى الغاشم التى راح ضحيتها عشرات الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ يقول الشاعر: من مجرى الجُرح القاني ها آنذا............ أنسلُّ حزينا بعروقِ قديم الأزمنةِ أسافرُ ممتطيا صهوة ذاكرتي وحروف التاريخ دليلي فيحطُّ جوادى بقبور الأندلس الأولى يجذبنى بعض مني أشتم روائح مجدٍ/ كان..../ ومات تنبش ذاكرتى عن بعض رُفات يهتز اللحدُ الماثل قُدّامي تخرج قرطبة الأم أمامي وتصيح عتاباً....... "ما لك والأموات – مالك والأموات" وتعود لحضن الكفن الدامي وتتمتم.. آه يا لبنان آه...آه...آه النزف شديد من دمنا والكل يراه الدرس يعاود ثانية.. وا إسلاماه الهوية التاريخية ونجد الشعراء العرب يعبرون عن انتمائهم التاريخي لأحداث معينة، فنجد عثمان لوصيف يحتفل بالثورة الجزائرية ويخلدها، فيقول: وأتى صبح فهبت موجة الريح علينا فتململنا نهضنا وانتفضنا ومسحنا عن مآقينا التراب  وغشاوات الضباب ثم إذ دمدمت الساعة رتلنا النشيد واعتنقنا النار في بأس الحديد آه يا معجزة البعث الجديد الهوية الشعرية تتعلق الهوية الشعرية بإحساس الشاعر بذاته ووعيه بها، ونجد هذه الهوية في أشعار الكثير من الشعراء، الذين يقعون بين هويتهم الشعرية والواقع، فنجد كمال الدين أديب، يقول: كتب الشاعر عنوان قصيدته كان متعبا كرأس مقطوع ووحيدا كصحراء سقطت في البحر وموحشا كقبر ينتظر جثة سرقها اللصوص وإذ حاول كتابة قصيدته حاصره الرأس وطوقته الصحراء وسخرت منه الجثة والقبر وألقى اللصوص القبض عليه فرحين مسرورين الهوية الدينية تتمثل الهوية الدينية في انتماء الشاعر إلى دين معين من ذلك ما نجده في أشعار حسان بن ثابت في صدر الإسلام، وفي مدح الرسول: نبي أتانا بعد يأس وفترة            من الرسل والأوثان في الأرض تعبد فأمسى سراجا مستنيرا وهاديا      يلوح كما يلوح الصقيل المهند  الهوية التأملية من خصائص الإنسان الواعي التفكير والتأمل، فالأمر لا يرتبط بالفلاسفة فقط، بل الأمر يتمد إلى الشعراء القدامى والمعاصرين، فنجد عثمان لوصيف في نصه "وقفة أمام البحر" يقول: واقف والبحر يمتد أمامي في مراياه العميقة أجتلي خطو الغمام رساما ثّمَّ طريقه واقف والشمس تلتاح خجوله في احمرار كالعقيقه بعد أنات طويله سقطت فيه غريقه مما سبق نجد أن الهوية ارتبطت بالشعراء وتنوعت بين الواحدة والمتعددة، فحملها معه أينما حل وارتحل بشكل واع أو غير واع، خلدها بنصوصه، فاجتمع تارة مع غيره من شعراء حول هوية واحدة مثل الهوية القومية والوطنية، وتارة حول هوية ذاته ووجدانه، فاستطاع الشاعر من خلال كلماته التعبير عن ذاته وكينونته بأسلوب أدبي لمس به هوية الكثير من سكان الوطن العربي.     

قراءة المزيد